الحزن المكتوم....احمد النجار




سرديات قصيرة
 ــــــــــــــــــــــــــ
  
                الحزن المكتوم 
                                بقلم  
                     أحمد عبد اللطيف النجار 
                                   أديب عربي 

الحزن درجات ، تماما كما هو الفرح درجات ، وقلة قليلة  من الناس هي التي تستطيع التغلب علي أحزانها بوسائل غير تقليدية  بخلاف نظرية النسيان التي يعلمها الجميع ، بمعني  نسيان التجارب المؤلمة التي مروا بها كي يستطيعوا التغلب علي أحزانهم ، ذلك هو الأسلوب المعلوم للجميع .
لكن ما حدث  مع السيدة المُبتلاة  بدور كان شيء مختلف تماما .
جاءتني بدور ذات يوم سعيد راضية رغم مسحة الحزن الواضحة علي وجهها قائلة : أنا سيدة شابة ، تزوجت منذ سبع سنوات ، عندما كنت في مرحلة طفولتي البريئة رحلت جدتي عن الحياة ؛ فجذبتني إحدى سيدات الأسرة 
من يدي لأقبّل وجه جدتي الراحلة ؛ فكرهت من تلك اللحظة الصعبة الموت كراهية شديدة ، وأصبحت لا أطيق مجرد تخيله أو التفكير فيه .
ظللت طوال طفولتي البريئة اذا رأيت سرادق عزاء في شارع لا أعبرة لكيلا أمر بجوار السرادق . 
مضت الأيام وعرفت طريقي في الحياة وتزوجت وسعدت بحياتي وحملت في طفلي عمر الذي أحببته من كل قلبي وهو ما زال جنين في بطني ، وعندما جاءت ساعة الولادة ورأيته منعني شيء مبهم من الفرحة بقدومه للحياة ، فقد كان يعاني من بعض الزرقة في جسمه ، وفسّر  الأطباء ذلك بأن زرقة جسمه من أثر ولادتي المتعسرة وسوف يزول سريعا !
غادرت المستشفي حاملة طفلي وبدأت أراقبه فوجدته في صحة ممتازة وحمدت الله علي نعمته ، ورحت أتلو آيات القرآن الكريم  كل حين داعية الله ان يحميه من كل سوء ، وحين بلغ شهرا من عمره  ذهبت به إلي  طبيب الأطفال للمتابعة  والاطمئنان عليه ولم يكن يشكو من شيء معين ، وبمجرد  أن رآه الطبيب سألني عن سبب زرقة جسمه  وطلب إجراء فحوص معملية سريعة  علي قلبه ، وجاءت النتيجة  بمفاجأة صعبة  وهي أن ولدي الحبيب عمر مولود بعيب خلقي في القلب وأنه يحتاج للسفر للخارج 
لإجراء  جراحة عاجلة بواسطة خبير أجنبي !
كانت الصدمة رهيبة ، زلزلت كل كياني ، وقمت بإعادة الفحوص ثلاث مرات علي أمل أن تكون خاطئة ، وانتهي الأمر بإجراء جراحة تمهيدية له في مصر علي أن أسافر به الي لندن لإجراء الجراحة الثانية.
دخلت المستشفي مع طفلي الحبيب  الذي كان مثل الملائكة تماما ، حتي تعبيرات وجهه ونظراته كانت وكأنه يودعني ويشعر باقتراب نهاية عمره القصير !
تمسكت بالأمل في رحمة الله ودخل ولدي الحبيب عمر غرفة العمليات وعمره لا يتجاوز الشهرين  !
رحت أنظر الي جسده الصغير  كيف يتحمل كل هذه الأجهزة والخراطيم التي تكبله من كل ناحية !
رأيت طفلي الحبيب ينظر إليّ بعين زائغة ؛ فسألته : هل سترحل من الحياة دون أن تعرف ماما التي حملت بك وأحبتك قبل أن تراك ؟!!
ساعتها شعرت برائحة الموت تقترب مني ، وفشلت جراحة عمر وتمت إعادتها في اليوم التالي مباشرة، ورحت أصلي لربي وأدعو لطفلي بالشفاء أو أن يلطف به خالقه ويخفف عنه !
يا إلهي ...! 
ماذا أقول ! ... تعجبت لنفسي  كثيرا حين دعوت له بهذا 
الدعاء ، فهو طفلي الحبيب  الذي تمنيت من الله أن يرزقني به ؛ هو نفسه طفلي الذي أرجو من الله أن يشفيه أو يسترده ويخفف عنه رفقا به !
لم يغمض لي جفن  ليلتها وأديت صلاة الفجر وشعرت وأنا أصلي بشيء  كالشرارة قد هزني في كتفي الأيسر ، ثم سري في جسدي كله واستقر في صدري ، وقمت من صلاتي لأكتشف أن اللبن قد جف من صدري تماما ولم يعد له وجود !
رحت أجمع حاجياتي وأنا أتلو سورة الواقعة حتي بلغت الآية الكريمة (  يطوف عليهم ولدان مخلدون بأكواب وأباريق وكأس معين )  ... وأحسست حينئذ أن ولدي الحبيب عمر قد رحل وتركني وحدي للأحزان الدفينة في صدري للأبد !
في الصباح أبلغني الأطباء أن ولدي قد مات وأن سهم القضاء قد نفذ ، ساعتها طالبت بإصرار أن أراه ودخلت عرفة العمليات لأجده قد فارق الحياة التي لم يطل مقامه بها ، ورفعته ووضعت رأسي بين عنقه وكتفي وضممته إلىّ بقوة كأني أريد أن أعيد إدخاله الي بطني مرة أخرى !!
في تلك اللحظة هبطت عليّ  سكينة من الله وتحجرت الدموع في عيني ولم أقل سوى الحمد لله وإنا لله وإنا
إليه راجعون .
وجدت نفسي أنا التي كنت أفرّ من الموت وأخشاه أحمله بين يدي ، كانت لحظات رهيبة ، كانت كل كلمات الدنيا عن الصبر والسلوان لم تكن تكفي للتعبير عن أحزاني المكتومة داخل صدري !
تماسكت وعدت الي عملي وتحول حزني في أعماق نفسي إلي وحش كاسر ينهشني ويلتهم كل حواسي الخمس ، حتي أنني وضعت كل همي في التهام الطعام وكنت آكل بكلتا يدي فلا يستقر بعدها شيء في جوفي !!
تمنيت ساعتها أن أصرخ وأصرخ وأصرخ وأـصرخ  كي يخرج الحزن الدفين من صدري .
واصلت تماسكي وتعمّدت ان اذكر ولدي الحبيب الراحل  عمر في كل لحظة ،، ووضعت صوره في كل مكان في البيت وحتي في مكتبي في العمل علي الرغم من اعتراض الجميع خوفا عليّ ورأفة بي .
عاهدت ربي علي أن اصلي ركعتين مع كل فرض باسم ولدي عمر كي أتذكره بقية عمري رغم يقيني أن هذا الملاك الطاهر لا يحتاج إلي صلاتي لأنه هناك يعيش في حجر أبو الأـنبياء سيدنا إبراهيم عليه السلام .
مرت الأيام وترفق بي ربي برحمته ولطفه، وحملت مرة أخرى وتأكدت هذه المرة بواسطة الفحوص  المتطورة 
ومتابعة الأطباء من عدم وجود  عيوب خلقية في الجنين ، وكان فضل الله عليّ عظيما وأنجبت طفلة جميلة أسميتها آية ، فهي آية وهبة من الله والحمد لله كانت صحتها جيدة ، وكنت أتذكر دائما أنها ليست ملكي  وإنما هي وديعة من عند الله  وأنه سبحانه وتعال قادر علي كل شيء  وأن الجاهل من بني آدم هو الذى يأمن مكر الله  ( ويمكرون ويمكر الله والله حير الماكرين ) ... وما زلت حتي اليوم أصلي ركعتين مع كل فريضة وأهب أجرهم لطفلي الحبيب عمر .
تلك هي قصتي مع الأحزان ، وكيف إنني بفضل الله تغلبت عليها بنعمة الذكري وتذكر الأحباب الراحلين وليس النسيان كما يفعل باقي خلق الله ، فالذكري تنفع المؤمنين .
////  يا الله ... يا الله .. يا الله ...تلك كانت تجربة رائدة لأحدي الأمهات الثكالي  ، الحزينات ، وصفت لنا فيها بأسلوب مؤثر بليغ  حكايتها مع الأحزان وكيف أنها تغلبت  علي الحزن المكتوم داخلها بالتذكر وليس النسيان ، ولا عجب في ذلك ، فكلنا ضعفاء أمام الألم الإنساني ، ورقة العواطف ليست عيبا أو ضعف ، بشرط ألا يتعارض ذلك مع تسليمنا بقضاء الله وقدره ، ولقد بكي رسول الله صلي الله عليه وسلم ولده الحبيب إبراهيم ولم يقل ما يغضب الله 
وبكي كذلك عمه حمزة بن عبد المطلب وصحابته الأكرمين الذين استشهدوا في  غزواته وقال لمن أدهشهم بكاؤه علي أحدهم : إنما هي عبرة الصديق علي الصديق ، وكان كما روي عنه كتّاب السيرة دائم الفكر ، متواصل الأحزان .
وها هو الزاهد المتصوف ( سمنون المحب ) الذي تجرد للعبادة وتعليم تلاميذه، نراه قد اغتر بنفسه وظن أنه قد بلغ من الشفافية درجة عالية تجعله قادرا علي تحمل أي اختبار من الله سبحانه وتعالي دون ان يشتكي منه ، فكان يردد مخاطبا ربه :
    وليس لي سواك حظ ......  فكيفما شئت فاختبرني 
هو هنا يؤكد لنفسه أنه سيكون عند الابتلاء من الصابرين ، فابتلاه الله بمرض احتباس البول ، وصبر سمنون عليه وتجلّد ولم يدع ربه للشفاء من مرضه ، حتي جاء تلاميذه يقولون له أنهم سمعوا أنينه في جوف الليل يدعو لنفسه بالشفاء من المرض ( ولم يكن قد فعل )  ...ساعتها علم سمنون  أن مراد ربه  هو أن يُظهر الحاجة إليه وليس الترفع والاعتزاز بالنفس !
فماذا فعل سمنون ؟!
قام علي الفور وطاف  علي تلاميذه الذين يتلقون العلم منه ويحفظون القرآن قائلا لهم : أدعو لعمكم الكذاب ...
أي عمكم الذي كذب علي نفسه  واغتر بعلمه وزعم أنه قادر  علي تحمل أي اختبار من الله سبحانه وتعالي .
لهذا نرى الصالحين لا يدّعون قدرتهم علي الصمود أمام الابتلاء وإنما يدعون ربهم .( ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به واعف عنا واغفر لنا وارحمنا أنت مولانا فانصرنا علي القوم الكافرين )  286 / البقرة .
وفي الحديث الشريف : من لم يسأل الله يغضب عليه .
في كل الأحوال تجربة أختنا الفاضلة بدور في نسيان الأحزان والآلام تجربة رائدة ، فهي بتلقائية وبساطة رائعة تدعو الجميع لأن  يتذكروا كي ينسوا !
وتلك وصفة مستخلصة من معاناتها الشخصية بسبب موت وليدها الصغير عمر ، ويا لها من نصيحة  رائعة وحكيمة تدعونا إلي مواجهة الواقع المؤلم والاعتراف به والتماس السلوي والعزاء عنه باسترجاع ذكري الأحباء الراحلين وإحياء ذكراهم في قلوبنا ، وذلك تأكيد وتجسيد للقائلين : أن من يرحلون عنا لا يموتون حقا حين نفقدهم وإنما حين ننساهم !
وها هي بدور قد واجهت الموت وحملته بين يديها بعد أن كانت تخشاه وتفر منه فرار السليم من الأجرب ، وتلك آية أخري وعلامة من علامات قوة إيمانها ، والمؤمن القوي خير وأحب إلي الله من المؤمن الضعيف .
وقد عشت أنا شخصيا نفس تجربة بدور مع الأحزان ، وكان ولدي الراحل اسمه أيضا عمر .
قبل أن يموت رحمه الله شاهدته بأم عيني يفقد حواسه الخمس كلها ، كل يوم حاسة ولا أستطيع عمل أي شيء لإنقاذه لأننا كنا يومها نعيش في ظل زعيم اللصوص العرب المغدور حسني مبارك !
كان ولدي الحبيب عمر يعاني من مرض نادر جدا ، يحدث في العالم كله بنسبة واحد في المليون كل ربع قرن !
وكان من الممكن إنقاذه لو سافرت به للخارج وفحصه الخبراء الأجانب ، لكن لأنه ليس ابن وزير أو ابن رئيس   جمهورية ، فمن  يهتم بأمره ؟!!!
وأقولها لزعيم اللصوص العرب حسني مبارك ، دم ابني في رقبتك ولعنة عليك وعلي أحفادك وأولادك  إلي يوم الدين .
كذلك دم كل الشهداء الأبرار الذين ماتوا قي ثورتنا الإلهية  في 25 يناير 2011 ،، دمهم جميعا في رقبتك ، ولعنة عليك وعلي أولادك وأحفادك إلي يوم الدين !!
لا تفرح كثيرا يا حسني انك نجوت من عقاب البشر ،، هناك في الآخرة ينتظرك الحساب الأكبر  وأرواح الشهداء الأبرار من شعبك البائس  تحوم من حولك  تطلب حقها والقصاص منك أمام علام الغيوب .
وإلي شعبي البائس الحزين أقول . إلي متي تكتم أحزانك ، وترضي بالخضوع  والهوان ؟!!
الدنيا كلها زائلة ونحن راحلون عنها رحيل مؤكد !
العالم من حولنا يتقدم ونحن نتأخر ونعود للوراء آلاف السنين !!
ويقولون لكم كله تمام ، والصبر طيب !!
إلي متي هذا لصبر الطيب ؟!!
إلي متي هذا الخضوع الطيب ؟!!
إلي متي هذا الهوان الطيب ؟!!!
إعلامهم الرخيص يرسم للشعب ( الجاهل )  صورة وردية للمستقبل الوردي !
والله إننا تراها صورة كالحة السواد !!
ويواصل نفس الإعلام الرخيص  نشر مسكناته وأكاذيبه لشعبنا البائس !!
طيب الصبر طيب !!
الصبر طيب !!!!!!!!
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
                                 أحمد عبد اللطيف النجار
                                         أديب عربي

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

فراق....الأمير احمد

معجزة ...نظرة عينيك.....علاء فيشة

اول مكالمة بعد الفراق....ايمان الخولى